يبدو أن عملية الثقة بالنفس تحتاج إلى مقومات، منها الاطمئنان إلى رائحة الفم، أي «النَفَسْ» ولهذه الكلمة الأخيرة دلالاتها العميقة.
ويتعرض لتفاصيل تلك المشكلة كتاب «تخلص من رائحة الفم .. لأنفاس منعشة دائماً»، الذي وضعه الدكتور ميتريداد دافارباناه والدكتور ميشال سيم، وصدر أخيراً عن «دار الفراشة» في بيروت في ترجمة لليديا طانيوس وزهراء مرتضى.
ويرجع الاهتمام بـ«النَفَسْ» إلى زمن الطبيب اليوناني أبُقراط. فقد أوصى مثلاً بفرك الأسنان بواسطة كُرَة من الصوف مغمّسة بالعسل ومن ثم غسل الفم بمزيج من الخمر واليانسون.
ولمحاربة رائحة الفم الكريهة، نصح أبو الطب باستعمال خليط من بودرة الرخام ورماد رأس أرنب بري وعظام ثلاث فئران مجففة ومطحونة.
واستخدم الرومان فرشاة أسنان مصنوعة من إحدى الأشجار التي تحتوي على بايكربونات الصودا والحمض الدبغي.
وأُكتشفت في روما آثار عيادة أسنان تعود إلى عهد الإمبراطور دوميسيانس (51-96م).
وأما في الشرق فشاع استخدام المسواك لإعطاء الفم رائحة طيبة وللحفاظ على صحة الأسنان.
في غياب الأوكسجين
يولي العالم المعاصر مسألة رائحة الفم أهمية قصوى بسبب آثارها الاجتماعية. ففي الولايات المتحدة، أكثر من 1000 عيادة متخصصة لمعالجة رائحة «النَفَسْ» الكريهة، تسمى «عيادات النَفَسْ المنعش».
وثمة صعوبة في تحديد معايير «النَفَسْ» الكريه بسبب اختلاف الثقافات في تحديد «الطيّب» و»الكريه»، ولأن من العسير أيضاً على المرء أن يقوّم بشكل موضوعي رائحة فمه، اذ أن غشاء الأنف المخاطي عند الإنسان مشبع برائحته بالذات، كما أن الدماغ لا يطلق تحذيراً عند شم روائح الجسم المعتادة.
يقدر البعض أن رائحة «النَفَسْ» الطبيعية يجب أن تكون عموماً مثل رائحة «الكستناء الطازجة».
ولكن من المسؤول عن «النَفَسْ» الكَريه؟
تتوجّه الأنظار فوراً إلى البكتيريا اللاهوائية وهي تلك التي تستطيع أن تتكاثر من دون الحاجة إلى الأوكسجين من الهواء.
وكلما انخفض معدل الأوكسجين ارتفعت نسبة البكتيريا.
ويلاحظ أيضاً أنها تُفرز كثيراً الأحماض الأمينية الغنية بالكبريت والأزوت.
وتعزّز بعض الظروف نمو هذه البكتيريا ومنها معدل مستوى الحموضة في اللعاب ومعدل الأوكسجين.
إذن، يقف اللسان في قفص الإتهام أيضاً لأنه يعج بالبكتيريا. وكلما أصبح لونه داكناً كانت رائحة الفم كريهة. وإذا مال لون اللسان إلى الزهري أو الأبيض، يكون في حال جيدة.
وإذ يحوي سطح اللسان عدداً كبيراً من التشققات فأنه يؤمن للبكتيريا بيئة مناسبة يقل فيها الأوكسجين كما تحميها من الانزلاق مع اللعاب، ما يضاعف أعدادها. ولذا، من الضروري تنظيف اللسان بالفرشاة عند فرك الأسنان للحدّ من مشكلة رائحة الفم.
ولا يظنن أحد أن العناية بالأسنان مسألة مُسَلّم بها. فالفرنسيون مثلاً لا يبدون حماسة إزاء تنظيف الأسنان.
ففي دراسة قديمة تعود إلى عام 1997 تبيّن أن أبناء بلاد الغال يستهلكون 1.4 فرشاة أسنان في السنة بدلاً من الأربع التي يوصي بها أطباء الأسنان.
وكذلك يستهلكون 3.5 أصبع من معجون الأسنان بدلاً من سبعة.
ويؤدي اللعاب مهمة الحفاظ على صحة الفم. فبعد كل وجبة طعام تتعرض أسناننا لهجوم الأحماض الناجمة عن عملية تحويل السكريات الموجودة في الأطعمة بفضل البكتيريا.
إذ يطلق اللعاب أجساماً مضادة تقاوم الجراثيم الموجودة في الطعام.
وبالتالي فإن غياب اللعاب أو نقص إفرازه يفتح الطريق أمام العوامل المسؤولة عن رائحة النَفَس الكريهة.
ومن المعلوم أن بكتيريا الفم والأسنان تمثّل بيئة تضم أكثر من 500نوع مختلف من البكتيريا، بعضها يكتفي بالمرور عبر الفم وبعضها الآخر يستقر على سطح الأسنان ويلتصق بها، مكوّناً الـ «بلاك» Plaque الذي تتراكم طبقاته المحتوية على كميات البكتيريا، كما أنها تلتصق بميناء الأسنان، وهي منطقة قريبة من اللثة.
وتؤدي ترسبات الـ «بلاك» الكثيفة إلى نمو البكتيريا التي تولد مواد كريهة الرائحة، وخصوصاً المركبات الكبريتية.
ويشبه الـ «بلاك» الدرع الواقية للبكتيريا. وعندما يتكلس، يظهر الجير الذي ينشأ عن اللعاب ويلتصق بالأسنان أيضاً.
وتفيد العناية بنظافة الأسنان في الحدّ منه. وكذلك تساهم الأسنان الاصطناعية في نشوء رائحة الفم.
إذ تنجذب البكتيريا اليها وإلى البروتينات التي تلتصق بها، لذا يجب أيلاؤها العناية اللازمة كحال الأسنان الثابتة.
ومن الضروري المبادرة إلى شنّ الحرب على رائحة الفم الكريهة من خلال الاهتمام بصحة الأسنان ونظافتها، عبر تقنيات عدّة. وعندها تصبح بسمة الأسنان البيضاء ورائحة الفم المنعش طريقاً لغزو القلوب وأسرها.