ما هي الخيارات والبدائل المطروحة، او المتبقية أمام الشعب الفلسطيني – وقواه ومؤسساته؟ هذا هو سؤال اللحظة الذي على ما يبدو يشغل الكثيرين. البعض بدوافع تشويق البحث الاكاديمي، وبعض الأطراف الخارجية من منطلق محاولة كسر ما يبدو لهم عنادا غير مبرر لفلسطينيين مصممين على مقارعة لاعقلانية لتوازن قوى مختل بصورة لا ينفع معها العناد، وللبعض الاخر من منطلق البحث الصادق عن مخرج لازمة ومعاناة تبدو بلا نهاية.
أما بالنسبة للشعب الفلسطيني نفسه المكتوي على جلده وفي اعماق نفسه بنار القمع والاضطهاد والتمييز العنصري وعناصر الاحباط والالم، فانه السؤال البسيط "أن نكون او لا نكون" ولا شيء اخر.
وقبل ان نخوض في الخيارات، لا بد من ايضاح بعض الاساسيات في مجالين : -
أولا : ان المعضلة الاساسية في معالجة القضية الفلسطينية بالنسبة للقيادات الرسمية منذ وُقع اتفاق اوسلو حتى اليوم تمثلت في صعوبة ادراك الحقيقة البسيطة بان "محاولة الهروب من الصراع لا تلغي وجود الصراع".
وما بدا منطقيا في بداية ما سمي "بعملية السلام" أي في مؤتمر مدريد ومفاوضات واشنطن التي تبعته، باعتبار المفاوضات عملاً أساسياً وجزءاً من ادارة الصراع، تحول للاسف منذ وُقع اتفاق اوسلو عام 1993 الى مفهوم غير منطقي، غير علمي، وغير مجد، ومتعارض مع المصلحة الوطنية، بأن " المفاوضات هي بديل للصراع وادارته".
ثانيا : ان المفاوضات والعملية السياسية اديرت من الجانبين العربي – الفلسطيني والاسرائيلي من منطلقين مختلفين.
فمن الجانب الفلسطيني والعربي، كانت المفاوضات سعياً وراء حل الصراع في ظل اختلال فادح في ميزان القوى، تحول مع تراكم الفشل، وتسرب الزمن الى هروب للامام ثم استسلام للقدر والاستعاضة عن ادارة الصراع بالتوكل على الآخرين، وآخر المتوكل عليهم أوباما دون التقليل من مغزى التحول الايجابي الذي حمله خطابه الاخير.
أما من الجانب الاسرائيلي، فالمفاوضات كانت دوماً جزءاً من، وعنصراً في، نهج شامل لادارة الصراع بالسلاح وبالكلام، بالحصار وبالاعلام وهل من دليل ابلغ على ذلك من ان اسرائيل شنت ثلاث حروب كبرى وانزلقت الى ارتكاب جرائم حرب واحدة تلو الاخرى، خلال مسيرة مفاوضات السلام.
ومن منطلقها فان اسرائيل لم تخض المفاوضات لايجاد حل وسط للصراع بل للانتصار فيه. وارتبطت كل مرحلة منها – بتحقيق انجازات معينه، منها :-
أ) تفكيك الصف العربي واحداث اختراق استراتيجي في وحدته خلال اتفاق كامب ديفيد (الاول)، وكان الهدف المركزي ابعاد مصر عن المحيط العربي وابعاده عنها باعتبارها – تاريخيا - الركيزة الكبرى لاي صراع ضد المستعمرين والمعتدين في المنطقة.
ب) محاولة احتواء حركة التحرر الوطني الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية بما تمثله من خلال تحويلها الى مجرد سلطة (اتفاق اوسلو).
ت) احداث وتشجيع انقسام داخلي فلسطيني مريع في البداية بين الداخل والخارج، ثم بين حماس وفتح وأخيراً بين الضفة والقطاع.
ث) محاولة تعميق الانقسام العربي بين معسكر ما سمي بالممانعة والاعتدال بتكريس نهجين مختلفين – متعارضين واحيانا متصادمين – في مواجهة نهج اسرائيلي موحد يستهدف الجميع ويحاول تحقيق اضعاف استرايتيجي للمعسكرين. ولولا ذلك لما تجرأت اسرائيل على شن حربها الهمجية على قطاع غزة، ولما تجرأت على الاستمرار في حصارها – الذي عادل عملاً من أعمال الحرب على مليون ونصف مليون فلسطيني، محرومين من أبسط مقومات الحياة الانسانية.
وعند اختيار البدائل والخيارات، في ادارة أي صراع علينا ان نحدد ما يريده الطرف الاخر أي اسرائيل، وان نطرح الاسئلة الاساسية :-
- ما هي نواياها وأهدافها الحقيقية؟
- هل لديها استعداد لحل وسط؟
- ما مدى قوتها، وما هي نقاط ضعفها؟
ان أي تحليل موضوعي لمواقف الحكومات الاسرئيلية المتعاقبة لا يمكن ان يشير الا الى ان اسرائيل لا تريد حلاً وسطاً، ولا تريد حلاً شاملاً، بل تريد فرض الاستسلام الاستراتيجي على الجانب الاخر.
ولا فرق في ذلك، بين الحكومات المختلفة، او بين باراك – ليفني ، اولمرت او نتنياهو.
فهناك مؤسسة صهيونية واحدة لها أهداف متدرجة، وتوزيع ادوار دقيق، وهي تتصرف بذكاء استراتيجي وطول نفس غير معهود وضمن خطة استراتيجية لم تتغير أسسها منذ عام 1948، ولا عناصرها المعدلة منذ عام 1967.
لقد كان خيارها الاساسي التخلص من كل او معظم الشعب الفلسطيني بالتطهير العرقي والحروب ومن ثم الضغط الاقتصادي/الاجتماعي، ثم لما فشل ذلك عام 1967 بصمود الشعب الفلسطيني رغم فداحة الهزيمة ونشأ واقع ديمغرافي خطير، جرى تعديل الخطة وابتكار فكرة "حكم ذاتي للفلسطينيين تحت الاحتلال" يتيح لاسرائيل السيطرة على الارض والموارد، ويبقى السكان في اطار معازل وبانتوستانات كوجود بشري مؤقت محروم من السيادة. وكان ذلك مضمون خطة آلون التي استمر تنفيذها بمنهجية منذ عام 1967، وركيزتها كان التوسع الاستيطاني اولاً حول القدس ومنطقة الاغوار، ثم في اعماق الضفة الغربية في الشمال والجنوب.
وتظهر الخرائط المرفقة – كيف كان التوسع الاستيطاني ومن ثم بناء الحواجز، وخرائط اتفاق اوسلو (مناطق أ ، ب ، ج) وبعد ذلك مسار جدار الفصل العنصري بمثابة تنفيذ تدريجي لخطة آلون، التي لم تتغير ابداً.
هناك حكومات اسرائيلية أصرت على تسمية الكيان الفلسطيني حكماً ذاتياً، واخرى كانت مستعدة لتسمية الحكم الذاتي دولة او دولة مؤقتة، لكن هذا الاختلاف لم يتعد كونه اختلافاً على التسمية فقط، فالمضمون بقي واحداً، دولة أو سلطة أو حكم ذاتي بدون سيادة وبدون سيطرة على القدس أو الحدود – الأغوار – أو الأجواء أو الموارد الطبيعية وتبقى فيه سلطة الأمن العليا بيد اسرائيل.
التطور الجديد، ان المؤسسة الصهيونية الجامعة تعتقد اليوم بحكم تحكمها الاستراتيجي غير المسبوق " انها دخلت في مرحلة تصفية عناصر القضية الفلسطينية".
ولم يكن انتخاب حكومة نتنياهو – ليبرمان صدفة، بل كان ناجماً عن قناعة بأن اسرائيل وصلت تلك المرحلة، وكنتيجة انعطاف المجتمع الاسرائيلي بصورة غير مسبوقة نحو التطرف والعنصرية، فاختفت تماما حركة السلام – باستثناء حركات تضامن هامشية بقيت صغيرة رغم نبل دورها، واصبحت الاستطلاعات تشير الى ان 81% من الاسرائيليين يرفضون مبدأ التفاوض على القدس، و81% يرفضون تفكيك المستوطنات، و69% يرفضون حتى تجميد توسيع المستوطنات القائمة، ووصل الامر مداه بدعم 91% من اليهود الاسرائيليين للحرب على غزة مع معارضة لم تتجاوز 3% فقط.
وتبلور اجماع اخر على رفض الانسحاب من الجولان . ولم يقتصر اعلان "ولا لاجيء واحداً" سيسمح له بالعودة على نتنياهو، بل اصبحت هذه علامة تسيبي ليفني (المعتدلة!!!!) المميزة.
ولذلك لم تظهر في اسرائيل – حتى الان حكومة واحدة توقف الاستيطان الذي لم يتوقف للحظة منذ عام 1967، بل تصاعد بشكل جنوني بعد اتفاقات السلام مع العرب والفلسطينيين، حيث تشير معطيات حركة السلام الان الاسرائيلية الى ان 59% من المستوطنين في الضفة الغربية، قد استوطنوا فيها بعد توقيع اتفاق اوسلو 1993.
والان عاد ائتلاف نتنياهو الى الفكرة القديمة – العقيمة بتقزيم الدولة الفلسطينية الى حكم ذاتي هزيل مسيطر عليه، يقوم بدور وكيل امني للاحتلال، واستبدل الاستقلال السياسي بخديعة التطور الاقتصادي في عودة غير محمودة لمخطط شارون – مناحيم ميلسون عام 1981 – 1982 بتحسين أحوال المعيشة تحت الاحتلال، والذي ترافق مع انشاء روابط القرى ومن ثم ولد الادارة المدنية.
لقد مثل خطاب نتنياهو رداً على خطاب اوباما، وشكل التأكيد القاطع والحاسم على مواقف المؤسسة الحاكمة في اسرائيل، خصوصاً انه استقبل بالترحاب – رغم عنصريته المطلقة – من قبل كافة الأحزاب الاسرائيلية من يسارها الى يمينها.
وأظهر ذلك الخطاب أولاً عدم وجود شريك للسلام في اسرائيل، وان قيادتها عاجزة عن صنع السلام.
وثانيا دخل نتنياهو التاريخ باعتباره رئيس وزراء اسرائيل الذي اعلن تكريس اسرائيل كدولة تمييز عنصري رسمياً، وليؤكد ان منظومة "الابارتهايد" لا تشمل فقط فلسطينييّ الضفة والقطاع بل والفلسطينيين الحاملين للجنسية الاسرائيلية (20% من السكان) ممن يقيمون داخل أراضي 1948.
وثالثاً كان خطاب نتنياهو برنامجاً للحرب على السلام الحقيقي والعادل، لقد تلاعب بالالفاظ في محاولة لتجنب الضغوط الامريكية والاستياء الدولي غير أن الحقيقة ظهرت على اوضح ما تكون.
وفي خطابه الذي يجب اعبتاره برنامجاً رسمياً للمؤسسة الاسرائيلية الحاكمة، حدد نتنياهو ستة مفاهيم رئيسية :-
(أ) ان الاولويات بالنسبة لاسرائيل، أيران اولاً والاقتصاد ثانياُ وبعد ذلك تأتي مسألة السلام ثالثاً.
(ب) الهدف هو السلام الاقليمي أي التطبيع مع الدول العربية دون انهاء الاحتلال، او حل القضية الفلسطينية، ولذلك لم يذكر نتنياهو مرة واحدة المبادرة العربية.
(ت) السلام الاقتصادي كبديل للسلام السياسي، أي تحسين ظروف المعيشة تحت الاحتلال بدل انهاء الاحتلال.
(ث) الأمن قبل السلام – لوضع السلطة الفلسطينية امام مهمة لن تنجز ابداً لانها موضوعياً مستحيلة الانجاز.
(ج) تكرار اكذوبة الانسحاب من غزة، لتبرير عدم الانسحاب من الضفة، مع ان غزة ما زالت تحت الاحتلال براً وبحراً وجواً.
(ح) أما المفهوم الأخطر – فقد كان الغاء الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، بتزوير التاريخ والجغرافيا والوقائع.
نتنياهو قال بكل الوضوح – كل فلسطين أرض يهودية بما في ذلك الضفة الغربية والقدس، وارض لليهود فقط من الناحية التاريخية، واسرائيل تتصدق على الفلسطينيين بمنحهم "جيتو" أو "جيتوات" تحت السيطرة الاسرائيلية.
وفي هذه النقطة تحديداً اصطدم نتنياهو علناً ومباشرة بكل قواعد القانون الدولي والقرارات الدولية من قرار التقسم عام 1947 ومروراً بقرارات 242، 338 وحتى قرار محكمة العدل العليا في لاهاي.
ومع ذلك فمن المؤسف اننا لم نسمع ادانة لذلك من المجتمع الدولي ولا تصدياً حازماً على مستوى المنطقة لهذا المفهوم القاتل لكل امكانية للتفاهم او السلام.
وبعد ذلك قلب نتنياهو الأمر ليهرب من الاعتراف بدولة فلسطينية من خلال مطالبة الفلسطينيين والعرب الاعتراف باسرائيل كدولة يهودية والتخلي الكامل عن حق العودة وبذلك وضع ثلاثة شروط تعجيزية أمام الفلسطينيين :-
1) الاعتراف بنظام التمييز العنصري الاسرائيلي والقبول به وبمصادرة حقوق 20% من سكان اراضي 1948 من الفلسطينيين.
2) القبول بتصفية الحقوق التاريخية والشرعية لأكثر من خمسة ملايين لاجيء فلسطيني.
3) الاعتراف بأن الضفة الغربية ايضا ارض يهودية وما سيمتلكه الفلسطينيون فيها لن يتعدى حقاً بالاقامة والمعيشة دون ان يصل ابداً الى مستوى حق بالسيادة.
لقد استغرب الكثيرون وصف خطاب نتنياهو بالايجابي من قبل بعض الحكومات لانه ذكر مجرد كلمة دولة. وهنا تكمن مفارقتان، الاولى ان الذين رأوا ايجابية، كانوا يقارنون نتنياهو بنتنياهو ولم يقارنوا مواقفه بمواقف الحكومات السابقة كما يحلوا لهم ان يفعلوا مع الفلسطينيين – وفي ذلك تتجلى "ازدواجية المعايير" المعهودة عند التعامل مع الفلسطينيين من قبل دوائر عديدة في العالم.
غير ان الامر الاهم يبقى ما هو مفهوم الدولة الذي طرحه نتنياهو.
لقد قال " دولة منزوعة السلاح بدون سيطرة على الحدود والمعابر والمصادر الطبيعية وبدون سيطرة على الاجواء، وبدون سيطرة على المستوطنات التي ستواصل التوسع، وبدون وجود في القدس التي ستبقى عاصمة يهودية موحدة لاسرائيل، على ان تبقى السيطرة على الامن بيد اسرائيل، وان تكون السلطة وكيلاً امنياً لها ".
اذن فنتنياهو يتحدث عن جيتو او معزل وليس دولة هو أسوأ حتى من مفهوم البانتوستان، وبالتالي هو يكرس نظام الابارتهايد – التمييز العنصري.
فما هو الايجابي في ذلك؟
تبقى قضية المفاوضات التي يقول ان حكومة اسرائيل تريد استئنافها بدون شروط مسبقة، غير ان نتنياهو يحدد نتائجها النهاية قبل ان تبدأ.
فالقدس – تبقى يهودية موحدة، مع حق أداء الشعائر الدينية الذي يستثني طبعاً معظم الفلسطينيين.
اللاجئون يجب ان تحل قضيتهم خارج فلسطين – أي تصفية حق العودة.
أما الدولة فجيتو بلا سيادة.
والاستيطان سيستمر في النمو.
فماذا تبقى بعد ذلك للتفاوض سوى تنسيق العمل بين الأجهزة الأمنية وتحديد آليات العمل الاقتصادي في ظل نظام الابارتهايد العنصري.
واذا كان نتنياهو قد اضطر لنطق كلمة "دولة" فالفضل في ذلك يعود لصمود الفلسطينيين وتضحياتهم، ولكنه عندما عمل ذلك لم يغير شيئاً سوى انه اصبح في نفس مدرسة ليفني وباراك "انطقوا كلمة دولة ولكن ابقوها مجرد حكم ذاتي هزيل".
وفي الخلاصة فان كل ذلك يظهر خطورة اللعب في ملعب الاسرائيليين وان التفاوض معهم حسب قواعدهم لن يجلب الا الدمـار.
في الماضي لم يمثل اتفاق اوسلو بالنسبة للمخطط الاسرائيلي سوى وسيلة لتفريغ واحتواء الضغط الايجابي الذي خلقته الانتفاضة الشعبية الاولى بكل تضحياتها، ولكسب الوقت من اجل توسيع الاستيطان وتوجيه ضربات لحركة التحرر الوطني الفلسطينية باعتماد نهج التجزئة والتأجيـل.
والمفاوضات في هذه الحالة، وكما كان الحال طوال ستة عشر عاما منذ وقع اتفاق اوسلو لن تكون سوى غطاء لسياسة الامر الواقع الاسرائيلية ولعملية التوسع الاستيطاني.
والى جانب تصفية وتشويه فكرة الاستقلال الفلسطيني والدولة الفلسطينية، واغلاق الباب امام مجرد التفاوض على قضايا الحل النهائي، تسعى اسرائيل الى تحقيق هدفين مركزيين :-
• معالجة المعضلة الديمغرافية الفلسطينية - والمتمثلة في ان عدد الفلسطينيين يساوي اليوم عدد اليهود على ارض فلسطين التاريخية – من خلال أولا: التخلص من قطاع غزة، بالفصل التام عن الضفة الغربية، والاستفادة طبعا من الانقسام الداخلي الفلسطيني، وبذلك فان اسرائيل اذ تترك 3ر1% فقط من مساحة فلسطين التاريخية، فانها تتخلص من 1/3 المعضلة الديمغرافية (حوالي 30% من السكان الفلسطينيين).
وثانيا: بتحويل التجمعات السكانية الفلسطينية في الضفة الى معازل وبانتوستانات (او جيتوات) صغيرة على أمل خلق ظروف اقتصادية لهجرة قسم كبير منهم، او الحاقهم والقاء عبئهم كسكان دون الارض على الاردن لاحقاً.
• اما الهدف المركزي الثاني: فهو تحقيق الهيمنة الاقليمية على المنطقة التي يدور فيها صراع بين 3 قوى اقليمية – تركيا – اسرائيل – ايران. ويحاول الكثيرون منع العرب حتى من مجرد ان يكونوا قوة اقليمية رابعة في هذا الصراع، وهدف اسرائيل الهيمنة عسكرياً واقتصادياً على المحيط العربي، ولذلك يريدون تشويه المبادرة العربية بطرح التطبيع قبل الحل، على طريق الوصول الى تطبيع بدون حل.
وتستهدف اسرائيل الدول العربية دول استثناء، فالاردن يقع في دائرة الاطماع المباشرة –اطماع التوسع الجغرافي الاسرائيلي واطماع تحويله الى وطن بديل للفلسطينيين، ومصر معرضة لمحاولات التهميش ومنعها من لعب الدور الاستراتيجي المقدر لها، ودول الخليج معرضة للوقوع بين فكي كماشة صراع اقليمي شرس.
على مدار عقود، كان نضال وصمود الشعب الفلسطيني وعناده في الدفاع عن حقوقه العقبة الكأداء التي لا تنثني تحت الضغط الاسرائيلي، وعلى مدار عقود بدأت تتعاظم تحولات على الصعيد الدولي انكشف خلالها تدريجيا الطابع العدواني العنصري لاسرائيل التي اصبحت نظام الابارتهايد الأسوأ في التاريخ البشري.
ولولا هذا الصمود الفلسطيني لما شهدنا ما نراه اليوم من معاكسة القدر لاسرائيل بعد انتخاب اوباما واضطرار الادارة الامريكية لاحداث تعديلات في سياستها تجاه القضية الفلسطينية تجلت بوضوح في خطاب اوباما الاخير، والذي وان لم يغادر موقع الانحياز الاستراتيجي لاسرائيل، وتجاهل وصف العنف الاسرائيلي، الا انه اخذ موقفاً حازماً وحاسماً وغير مسبوق ضد التوسع الاستيطاني وضد الاستيطان، وقدم لأول مرة في تاريخ الرؤساء الامريكيين خطاباً يلاحظ الوجه الانساني للشعب الفلسطيني. وأقدم على مقارنة جريئة وغير مسبوقة بين معاناة الفلسطينيين وتلك التي عانى منها اسلافه من الامريكيين الافارقة في ظل نظام التمييز العنصري او معاناة أهل جنوب افريقيا والهند في سعيهم للحرية والاستقلال والمساواة مشدداً على ما يسببه الاحتلال من مهانة وظلم.
واذ اعاد التأكيد على هدف الدولة المستقلة، فانه عاد الى جذور القضية الفلسطينية، أي الى عام 1948 وقضية اللاجئين ولم يحصر الامر باحتلال عام 1967، واشار الى القدس كمكان مشترك لا يستطيع الاسرائيليون احتكاره.
واذا كان الموقف الامريكي من الاستيطان وضرورة وقفه فوراً – مثل الموقف الرسمي الفلسطيني- قد تأخر ستة عشر عاماً، فلا بد من استذكار ان اسرائيل تستجمع الان كل طاقتها، وكل الاعيبها، وكل محترفي التضليل السياسي لديها وفي مقدمتهم بالطبع شمعون بيريس، لكي تنفس مرة اخرى الضغط والعوامل الايجابية – كما فعلت خلال عملية انابوليس التي تمخضت بعد عام ونصف عن صفر سياسي كبير للفلسطينيين واستيطان كبير وغير مسبوق للاسرائيليين.
ومن هنا فان الوقوع مجدداً في فخ خريطة الطريق التي يرفضها نتنياهو بالمناسبة، ومفاوضات جديدة دون اسس واضحة، بدون انهاء شامل لكل نشاط استيطاني وتعهد اسرائيلي قاطع بالالتزام بالقانون الدولي وانهاء الاحتلال لجميع الاراضي المحتلة والاعتراف بحقوق اللاجئين الفلسطينيين، سيخدم هدف اسرائيل في كسب الوقت واستنزاف الضغوط وارباك اوباما واشغاله ولتحييد اية عناصر تتعارض مع المخطط الاسرائيلي الاستراتيجي الذي وصفناه.
وقد بدأت ملامح الالاعيب الاسرائيلية في مواجهة التغير النسبي الذي حملته ادارة اوباما تتضح، من خلال افخاخ اربعة تحاول المؤسسة الصهيونية نصبها له وللمجتمع الدولي وللفلسطينيين.
أولاً : الخلط بين المستوطنات وعددها 126 وكلها غير قانونية وغير شرعية في العرف الدولي وتضم حوالي نصف مليون مستوطن (000ر476)، وبين ما يسمونه النقاط الاستيطانية وعددها 106 (ومعظمها ملتصقة بمستوطنات قائمة او تشكل امتداداً لها) ومجموع من يقيمون فيها لا يتجاوز 4000 مستوطن. وما ستحاول حكومة اسرائيل عمله اشغال العالم بالنقاط الاستيطانية لجذب الانتباه عن المائة وستة وعشرين مستوطنة، وسيبدأوا لعبة اخلاء بعض النقاط الاستيطانية (7 بالنسبة لنتنياهو و 22 حسب باراك) ولا يتجاوز عدد الذين سيتم اخلاؤهم بضعة عشرات، وسيعود بعضهم مجدداً بعد اخلائه، بهدف اعطاء شرعية للنصف مليون مستوطن الآخرين.
ثانياً : الحديث عن النمو الطبيعي للمستوطنات للتملص من مطلب تجميد الاستيطان، وكأن النمو الطبيعي لجسم غير شرعي يجعله شرعياً، في حين تتنكر اسرائيل لحق المقدسيين والقاطنين في معظم مناطق الضفة الغربية (المسماة مناطق c) في الحصول على رخص للبناء، وتهدد 000ر60 مواطن في القدس بهدم منازلهم بهذه الحجة.
ثالثاً : العودة الى فخ – الدولة ذات الحدود المؤقتة – وهذا ما يروج له اليوم أكثر قادة اسرائيل خبثاً شمعون بيريس، والهدف الحصول على اوسلو جديد ومهلة زمنية جديدة لتوسيع الاستيطان وفرض الامر الواقــع.
رابعاً : الضغط على الدول العربية للقيام باجراءات وخطوات تطبيع مع اسرائيل، دون وقبل ان تنهي اسرائيل استيطانها واحتلالها ونظامها للفصل العنصري.
الخيـار قبـل البدائــل
بعد كل ذلك فاننا كفلسطينيين نواجه واحداً من خيارين لا ثالث لهما.
اما مواصلة الهروب من الصراع كما حاول البعض ، او قراراً وطنياً جماعياً بخوض الصراع.
وليس قرار خوض الصراع بالضرورة دعوة لشن حرب عسكرية، ولا يخفى على احد تفوق اسرائيل في هذا المجال بالهيمنة العسكرية التقليدية وغير التقليدية – النووية –، كما لا يخفى على احد عدم وجود استعداد وقدرات لدى الدول المجاورة بأخذ هذا الخيار.
غير ان عدم القدرة على شن حرب لا يعني الاستسلام للطرف الآخر والهروب من الصراع.
ورغم التفوق العسكري الاسرائيلي العسكري فان اسرائيل تعاني من نقطتي ضعف – او بطن رخو – في مجالين :-
1) محدودية قدرة القوة العسكرية الاسرائيلية على فرض حلول سياسية على شعب مصّر على المقاومة والنضال. تجلى ذلك مرتين في حربين على لبنان، وتجلى مرة أخرى في العدوان على قطاع غزة.
2) نتيجة نجاح الفلسطينيين في الصمود ونتيجة العامل الديمغرافي في الصراع، تكرست اسرائيل كنظام تمييز وفصل عنصري – ابارتهايد معاد للسلام، الى جانب ملامح أخرى كالتطهير العرقي الذي مورس عام 1948، او الاستعمار الاحلالي. وتؤدي القوانين الاخيرة المطروحة على الكنيست – مثل قوانين الولاء ليهودية الدولة، ومنع الفلسطينيين من احياء ذكرى النكبة الى مزيد من انكشاف الطابع العنصري لاسرائيل.
والمفارقة هنا، ان وصول اسرائيل لحظة الذروة في تجزئة الشعب الفلسطيني جغرافياً، بين خارج وداخل، وبين القدس والضفة، والضفة والقطاع، ثم بين كل محافظة وأخرى بالحواجز والطرق، قد ترافق مع اعادة توحيد معاناته وتوحيد التحديات التي يواجهها فكل الفلسطينيين – سواء كانوا في الخارج او الداخل وسواء حملوا هوية اسرائيلية او كانوا من مواطني القدس او الضفة او القطاع، يعانون جميعاً من نفس منظومة التمييز والفصل العنصري الاسرائيلية.
ان البديل الوحيد للهروب من الصراع هو خوضه من اجل حله، وهذا يعني الاقرار باننا ما زلنا في حالة حركة تحرر وطني وان العمل السياسي والدبلوماسي هو جزء من عملية ادارة الصراع وليس بديلاً له، بل يجب ان يكون وسيلة لعزل ومحاصرة السياسة الاسرائيلية وفضحها والمطالبة بفرض عقوبات عليها.
ومن هنا فان نظرية بناء مؤسسات دولة تحت الاحتلال، يطغى عليها الطابع الامني وتستهلك أجهزتها الأمنية 35% من الموازنة العامة، في ظل حديث نتنياهو عن التطور الاقتصادي كبديل للحل السياسي يحمل ايضا مخاطر "التأقلم مع الظروف" بدل العمل على تغييرها.
فبناء المؤسسات الفلسطينية والتطوير الاقتصادي يجب ان يتم في اطار فلسفة "التنمية المقاومة" ودعم الصمود الوطني في وجه اجراءات الاحتلال، وتخفيف الاعتمادية على التمويل الخارجي التي جعلت الضفة والقطاع تحتل الموقع الاول المقلق في تبعيته واعتماده على المساعدات الاجنبية في العالم.
ان الهدف الاستراتيجي للنضال الفلسطيني يجب ان يكون
" جعل تكلفة الاحتلال والابارتهايد الاسرائيلي متصاعدة الى درجة لا يمكن احتمالها ".
واذا توافقنا على خيار ادارة الصراع، فان استراتيجيته يجب ان تقوم برأينا في المبادرة الوطنية الفلسطينية على أربعة أعمدة :-
1 - المقاومة، وهي حق للشعب الفلسطيني بكل اشكالها التي يقرها القانون الدولي، ويمثل النضال والمقاومة الشعبية الجماهيرية والتي تأخذ طابعاً سلمياً ولكنها تعيد ثقافة المقاومة المشاركة لدى مختلف فئات الشعب الفلسطيني ولا تجعل النضال محصوراً أو محتكراً من مجموعات صغيرة، نموذجاً صاعداً يتواصل اتساعه.
ولدينا نماذج واضحة لهذه المقاومة، منها المقاومة الباسلة والمتواصلة – ببطولة وعزم مشهود بهما – لجدار الفصل العنصري والاستيطان وتمثل مقاومة نعلين – التي قدمت خمسة شهداء حتى اليوم – وبلعين والمعصرة وجورة الشمعة وقفين وعزون العتمة وسوسيه – يطا وبيت امر والبلدة القديمة في الخليل وارطاس والخضر وجيوس وقلقيلية وصفا نماذج رائدة لنضال لا بد ان يتسع ويتعاظم.
وتمثل مقاومة سكان القدس وسلوان لاجراءات التهويد وهدم المنازل نموذجا آخر.
وتنهض اليوم بجهد مثابر حركة مقاطعة البضائع الاسرائيلية وتشجيع المنتجات المحلية كنموذج واعد آخر، لمنع الاحتلال من مواصلة حلب أرباح تسويق منتجاته، ومشاركة شعبية في المقاومة لكل طفل وشيخ ورجل وامرأة، فيما يمكن ان يعيد خلق ثقافة وروح
العمل الوطني الجماعي.
وتمثل حملات كسر الحصار على قطاع غزة، وتسيير السفن والقوافل اليه والضغوط لاجبار اسرائيل على رفع حصارها نموذجاً أخر لهذه المقاومة.
2 - دعم الصمود الوطني :
ويركز هذا الجانب على تعزيز القوة الديموغرافية للشعب الفلسطيني وتحويل ملايين الفلسطينيين الى قوة فاعلة، وتلبية احتياجاتهم وصمودهم على ارضهم وتنمية القوة البشرية الفلسطينية باعتبارها اساس اقتصاد فلسطيني قوي، مستقل ومقاوم.
وهذا الهدف لا يمكن تحقيقه بدون تغيير موازنة وخطة السلطة الفلسطينية الاقتصادية لتنقل مركز ثقلها الى حقول التعليم والصحة والزراعة والثقافة بدل هدر ثلث الموازنة على الامن.
وعلى سبيل المثال فان اصدار قانون الصندوق الوطني للتعليم العالي وتطبيقه فوراً يمثل نموذجا لتلبية احتياجات مئات الالاف، واطلاق آلية لرفع مستوى التعليم الجامعي وتطويره، وكذلك وسيلة لديمومة تأثير المساعدات المستثمرة وتقليل الاعتماد على الدعم الخارجي.
ان هذا الصندوق مثلا من شأنه رفع عبء الاقساط الدراسية عن ما يزيد عن مائة وخمسين الف عائلة، وانهاء كل شكل للمحسوبية والواسطة في التعامل مع البعثات الدراسية والقروض، واتاحة فرص متكافئة للتطور العلمي والتعليم لكل الشباب والشابات بغض النظر عن فقرهم وغناهم.
هذا مجرد مثل من امثلة عديدة في حقول التعليم والصحة والزراعة والثقافة لبرامج ومشاريع يمكن ان تعزز الصمود الديموغرافي الفلسطيني وتحوله الى قوة نوعية قادرة، متعلمة وعصرية.
3 - الوحدة الوطنية وبناء قيادة وطنية موحدة للشعب الفلسطيني بما يشمله ذلك من اعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية على اسس ديموقراطية وتنفيذ ما اتفق عليه سابقا ولاحقا في حوارات القاهرة.
لقد كان محور الهجوم الاسرائيلي خلال السنوات الماضية التركيز على الانقسام السياسي الداخلي والتشديد على ضعف القيادة الفلسطينية غير الموحدة.
ان تحقيق هذه الوحدة يتطلب أربعة أمـور :-
أ ) التخلي عن عقلية وممارسة التنافس على سلطة وهمية ما زالت تحت الاحتلال سواء في الضفة الغربية او قطاع غزة.
ب) التخلي عن الوهم بأن أي قوة فلسطينية مهما عظم شأنها، قادرة على قيادة الساحة والنضال الفلسطيني منفردة.
ت) اعتماد الديمقراطية الداخلية كنهج حياة وقيادة وممارسة والحوار السلمي والاحتكام السلمي للممارسة الديمقراطية كخيار وحيد لحسم الخلافات والاختلافات. والرفض الحازم لنهج نفي الاخر، والقبول بمبدأ التعددية السياسيـة.
ث) صد الضغوط والتدخلات الخارجية في الشأن الداخلي الفلسطيني وفي القرار الفلسطيني وأولها التدخلات الاسرائيلية، وترسيخ قناعة ثابتة لحق الفلسطينيين في اتخاذ قرارهم الوطني المستقل.
ان المهمة الاصعب التي تقف امامنا اليوم هي كيف نبني استراتيجية وقيادة موحدة تخضع لها كافة القرارت السياسية والكفاحية ولا ينفرد بعدها أي طرف بالقرار.
والنتيجة لذلك ستكون مواجهة الحصار بالوحدة، بدل الابتعاد عن الوحدة خوفاً من الحصار. وستكون انتزاع زمام المبادرة من الاخرين بدل المراوحة في دائرة ردود الافعال وستكون فرض القرار الفلسطيني الموحد، بدل استقواء اطراف الصراع الداخلي باطراف خارجية لتقوية نفسها.
وسيثمر ذلك في قلب المعادلة التي ادت الى تقزيم حركة التحرر الوطني داخل السلطة (سواء في الضفة او القطاع) وجعل السلطة اداة في خدمة حركة التحرر الوطني.
4 - بناء وتعزيز حركة التضامن الدولية، وحركة فرض العقوبات على اسرائيل:
ان هذه الحركة المتصاعدة تبشر بالخير، ولكنها تقتضي جهداً هائلاً لتنظيمها وضمان تناسقها، وتأثيرها على صانعي القرار خصوصاً في الولايات المتحدة واوروبا الغربية.
وهي بحاجة الى اعادة تنظيم الجاليات الفلسطينية والعربية والمسلمة في اطار جهد متناسق موجه نحو هدف واحد.
واذا كانت هذه الحركة قد حققت نجاحات مثل فرض العقوبات على منتجات اسرائيلية، وقرار اتحاد الجامعات البريطانية بفرض مقاطعة اكاديمية على اسرائيل، او سحب الاستثمارات الذي قامت به كلية هامبشاير وبعض الكنائس في الولايات المتحدة، فانها ما زالت بحاجة الى تنظيم كبير وتوسيع وتركيز.
ان وضع القضية الفلسطينية – التي سماها نيلسون مانديلا – قضية الضمير الانساني الاولى في عصرنا، يشبه الى حد ما حالة جنوب افريقيا في بداية الثمانينات من القرن الماضي. وقد اقتضى الامر سنوات من الجهود الموحدة والمنضبطة كي تصل حركة العقوبات الى الحكومات ، بعد ان اصبحت التكلفة الاقتصادية للتعامل مع نظام الفصل العنصري اكبر من ان تحتمل، من قبل الشركات الكبرى.
وفي الحالة الفلسطينية يبدو لي ان هناك ثلاثة شروط لنجاح الحملة الدولية . الاول: تنظيمها باحكام ودقة وانضباطية عالية وتناسق محكم، وثانيا: عقلانية ومنطقية وحضارية خطابها لتفويت الفرصة على الاستفزازات الاسرائيلية وثالثا: ان تستهدف الشرائح والحركات التقدمية في المجتمعات المختلفة بما في ذلك اليهود المعادون للصهيونية ولسياسات اسرائيل وتجنيدهم الى جانبها.
وليس في كل ما قيل ابتكار جديد، غير ان ما قيل لم يطبق حتى الآن.
ونقطة الانطلاق في تطبيقه يجب ان تكون في التركيز على ان قضية فلسطين، وان كانت قضية فلسطينية بالطبع وعربية واسلامية كذلك، ولكنها قبل وبعد ذلك قضية انسانية شاملة لكل من تعز عليه قيم الانسانية والعدالة في العالم. هذا ما نجح في صنعه مناضلو جنوب افريقيا والمناهضون للحرب على فيتنام، والداعون لاستقلال الهند، وهذا ما يجب ان نفعله نحن بحيث يكرس عنوان التضامن مع الشعب الفلسطيني باعتباره "نضالاً وموقفاً ضد الابارتهايد الجديد والفصل العنصري"، ونضالاً الى جانب العدل والحق في الحرية.
ويشكل قرار محكمة لاهاي الدولية ضد جدار الفصل العنصري والاستيطان وتغيير معالم القدس، سابقة قانونية ثمينة جرى اهمالها على مدار 4 سنوات من قبل المؤسسات الرسمية الفلسطينية، وهي يجب ان تشكل منطلقاً للمطالبة بفرض ضغوط وعقوبات على اسرائيل كما كان القرار ضد احتلال ناميبيا ركيزة لاستنهاض حملة ضد نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيـا.
ان الاستراتيجية التي نطرحها، بعناصرها الاربعة والتي تتبناها حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية، تحتاج مع الرؤية الواضحة الى صبر ومثابرة واصرار ومنهجية.
واذ لا اتوقع ان يوافق عليها الجميع ، فمصالح البعض الممزوجة بمشاعر الاحباط واليأس تجعلهم ابعد عن ان يريدوا خوض او مواصلة المواجهة مع اسرائيل، وعلينا الاعتراف بوجود فئات اجتماعية اصبحت اعتماديتها على المشاريع والترتيبات الانتقالية وتمويلها تشل ارادتها وتعيق امكانية مشاركتها في النضال من اجل التغيير الحقيقي.
غير ان هذا الطرح – الاستراتيجية الشاملة – يستجيب بالتأكيد ويمثل مصالح الغالبية الساحقة من الشعب الفلسطيني بكل مكوناته، ويضمن مستقبله.
واذا كان النضال الوطني الفلسطيني، ولا بد ان نسميه اليوم النضال الوطني – الاجتماعي الفلسطيني بحكم تداخل المهمات الوطنية والاجتماعية (التحرر مع الديموقراطية والعدالة الاجتماعية)، قد مر بمرحلتين غلب في الاولى منها ادارة الصراع من الخارج مع اهمال لدور الداخل، وتغلب في الثانية انتقال مركز الثقل للداخل مع اهمال للخارج، فان الطور الثالث الذي ندخله اليوم يقتضي الجمع الناجح بين الداخل والخارج بما يشمله ذلك من استنهاض لطاقات الجاليات الفلسطينية والمؤيدين لها في الشتات والخارج.
وفي الختام، لا يمكن انهاء هذه المعالجة للاستراتيجية الفلسطينية دون التطرق الى موضوعة دولة او دولتان.
ومن الصحيح نظرياً وعملياً دون شك طرح هذا الموضوع، لسببين :-
أولا : محاولات اسرائيل تشويه فكرة الدولة بتحويلها لحكم ذاتي – او دولة مؤقتة – هزيلة دون سيادة.
وثانيا : ما يراه الناس على ارض الواقع من تغييرات استيطانية تحول فكرة الدولة الى حلم مستحيل المنال.
وبالنسبة للبعض خصوصاً الذين يعيشون في الشتات يبدو استبدال شعار "حل على اساس دولتين" بشعار حل " الدولة الواحدة " علاجاً يقدم الخلاص. وهو علاج افضل بدون شك ، لكنه لا يقدم الخلاص بعد. لان تبني الشعار لا يعني انهاء الصراع. والشعار بدون استراتيجية لتحقيقه سيبقى امنية طيبة ، او وسيلة مشرفة للبعض "لعدم بذل الجهود الذي تتطلبه مسؤوليات إدارة الصراع ".
وليكن واضحا هنا، ان تدمير اسرائيل لخيار دولة فلسطينية مستقلة ولحل الدولتين – وهو ما تقوم به فعليا الان وبالملموس على مدار الساعة – لا يترك الشعب الفلسطيني بدون خيارات بديلة كما يظن بعض قادة الحركة الصهيونية. فالدولة الديمقراطية الواحدة – وليس ثنائية القومية – التي يتساوى فيها الناس بغض النظر عن دياناتهم واصولهم في الحقوق والواجبات هي خيار بديل قائم، لمحاولة جعل الفلسطينيين يقبلون العبودية للاحتلال ونظام الابارتهايد في ظل حكم ذاتي هزيل – او حكم ذاتي هزيل يسمى دولة او دولة مؤقتة.
غير انه سواء كان الهدف دولة مستقلة حقيقية او دولة واحدة، فانه لا يمكن تحقيق أي من الهدفين او الشعارين المرفوضين كليهما وبنفس القوة من قبل اسرائيل، الا عبر اسقاط وافشال وهزيمة منظومة الابارتهايد، ولذلك تلزم استراتيجية. وبدل انقسام جديد سابق لاوانه في صفوف الفلسطينيين بين الشعارين، علينا ان نتوحد خلف الهدف المشترك لكليهما – استراتيجية النضال ضد الاحتلال والابارتهايد والتمييز العنصري .
ومثلما آن اوان الانتقال من عالم الشعارات الى عالم الواقع النضالي الملموس، والمهمات المحددة والخطط الاستراتيجية التي توضع موضع التنفيذ، وهذا يشمل المتظاهرين ضد الجدار مثلما يشمل المثقفين والقادة السياسيين، فانه قد آن الاوان كذلك لانهاء الظن بأن العمل الدبلوماسي واروقة المفاوضات تغني عن مهمات النضال الفعلي.
امامنا طريق واحد، نهايته واحدة، حرية الشعب الفلسطيني. وليس هناك ما هو انبل من السير عليه حتى نهايتـه.
وذلك ليس مشروعاً لسنوات بعيدة، انه مشروع اليوم الملّح والذي لا ينتظر.
ولذلك يحسن بنا ربما ان نعيد تبني شعار مناضلي ومناضلات جنوب افريقيا.
الحريـة ... و" الحرية في حياتنا "!!